تحليل نقدي للاجتهاد القضائي

تطور مبدأ حسن النية في البيوع العقارية في سوريا

إعداد القاضي: جمـال الأشـقر

 

يشكل مبدأ حسن النية إحدى الركائز الأساسية في نظم نقل الملكية العقارية، ويهدف إلى حماية المشتري الذي يباشر معاملة عقارية دون علمه بوجود عيوب تؤثر على حقوقه. ويكتسب هذا المبدأ أهمية خاصة في الأنظمة القانونية التي تعتمد على السجل العقاري كضامن للحقوق العينية، حيث يُفترض أن ما هو مسجل في السجل يعكس الواقع القانوني الصحيح.

في السياق السوري، واجه تطبيق مبدأ حسن النية تحديات متعددة، تمثلت في تضارب الاجتهادات القضائية بين حماية المشتري الذي يعتمد على السجل العقاري، وحماية حقوق المالكين الأصليين الذين قد يفقدون ممتلكاتهم بسبب التزوير أو الاحتيال. هذا التضارب نشأ عن تعارض بين مبدأ الثقة بالسجل العقاري ومبدأ حماية الحقوق الأصلية، مما أوجد حالة من عدم الاستقرار القانوني. يُعد السجل العقاري في سوريا الركيزة الأساسية لإثبات الحقوق العقارية، لكنه لم يخلُ من العيوب، خاصة في ظل النزاع المستمر الذي أدى إلى تزوير واسع في المعاملات العقارية. ومع تزايد النزاعات حول الملكية، برزت الحاجة إلى تنظيم حماية المشتري حسن النية وتوضيح معاييرها.

حيث سعى القرار الصادر عن الهيئة العامة لمحكمة النقض السورية في عام 2022 إلى توحيد الاجتهادات القضائية عبر وضع مبادئ واضحة توازن بين حماية المشتري وحماية حقوق المالكين الأصليين، مع التركيز على سلامة الإجراءات العقارية.

 

الإطار القانوني والمفاهيمي

  1. الأسس التشريعية لمبدأ حسن النية في القانون السوري
  • قانون السجل العقاري السوري (القانون رقم 188 لعام 1926): يشكل هذا القانون الإطار التشريعي الأساسي لنقل الملكية العقارية في سوريا. وقد نصت مواده على:
    • المادة 8: تقر بحجية القيود العقارية، وتفترض صحة البيانات المسجلة ما لم يثبت العكس.
    • المادة 13: تؤكد على مبدأ حسن النية، إذ يُفترض أن المشتري الذي يجهل العيوب الجوهرية للعقار يُعد حسن النية.
    • المادة 14: تنص على إسقاط الحماية عن المشتري إذا ثبت علمه بالغش أو التزوير.
  1. الإشكالية :

هل يكفي الاعتماد على السجل العقاري لإضفاء الحماية على المشتري حسن النية؟ أم أن وجود عيوب جذرية (مثل التزوير) يهدر هذه الحماية حتى مع جهل المشتري؟

 

التحليل الاجتهادي: من التضارب إلى الوضوح

  1. مرحلة التضارب (1972-2009)
  • الاتجاه الأول (1972-2009): حماية المشتري بناءً على التسجيل العقاري فقط
    • القرار رقم 59/41 لعام 1972: أكدت محكمة النقض السورية حماية المشتري الذي سجل العقار باسمه، بغض النظر عن العيوب التي قد تؤثر على ملكية البائع، طالما أنه حسن النية.
    • هذا الاتجاه ركز على مبدأ “الثقة المطلقة في السجل العقاري”، مع تجاهل تأثير العيوب الجذرية مثل التزوير.
  • الاتجاه الثاني (2009): قيد حماية المشتري في حالات التزوير
    • القرار رقم 1444/169 لعام 2009: قيدت محكمة النقض حماية المشتري حسن النية إذا ثبت أن ملكية البائع قامت على مستندات باطلة أو مزورة، استنادًا إلى قاعدة “ما بُني على باطل فهو باطل”.
  1. قرار الهيئة العامة لمحكمة النقض (2022): توحيد المبادئ
  • بهدف إنهاء التضارب الاجتهادي، أصدرت الهيئة العامة لمحكمة النقض السورية القرار رقم 6 لعام 2022 الذي حدد المبادئ التالية:
    1. سمو السجل العقاري المشروط بالسلامة الإجرائية: لا تُحمى حسن نية المشتري إذا ثبت أن التسجيل تم بناءً على تزوير أو انتحال، حتى لو كان المشتري جاهلًا.
    2. إبطال الأثر الرجعي للعقود الباطلة: لا يولد العقد الباطل أي حقوق، ويزال أثره من السجل العقاري.
    3. توسيع واجبات المشتري: يُفترض بالمشتري التحقق من سلسلة ملكية البائع، خاصة مع التطور التقني الذي يسهل الكشف عن الغش.

تأثير احداث الثورة السورية (2011-2025) على مبدأ حسن النية في البيوع العقارية:

شهدت سوريا خلال سنوات الثورة الممتد لأكثر من 14 عامًا تحولات عميقة أثرت على تطبيق مبدأ حسن النية في البيوع العقارية، خاصة في ظل التهجير القسري وفقدان السجلات العقارية وانتشار حالات التزوير. هذه الظروف الاستثنائية أوجدت بيئة قانونية مضطربة تميزت بما يلي:

  • تفاقم حالات التزوير وفقدان السجلات العقارية: تعرضت العديد من مكاتب السجل العقاري للتدمير أو الحرق، مما أدى إلى فقدان الأرشيف العقاري التاريخي، واستغلال بعض الأشخاص لغياب المالكين الأصليين لنقل الملكية بطرق غير مشروعة.
  • تزايد النزاعات حول الملكية: أدت عمليات التزوير المنظمة إلى نزاعات بين المالكين الأصليين والمشترين الجدد، خاصة مع تسجيل العقارات بأسماء غير أصحابها.
  • ضعف الثقة بالسجل العقاري: تراجعت الثقة بالسجل العقاري كمصدر موثوق للحقوق العينية، مما دفع القضاء إلى تشديد شروط حماية المشتري حسن النية.
  • تأثير النزاع على تفسير القضاء لمبدأ حسن النية: أصدرت المحاكم السورية أحكامًا متناقضة، ما بين التمسك بحماية المشتري المسجل، وتقييد هذه الحماية في حالات التزوير. وقد عكس قرار الهيئة العامة لمحكمة النقض لعام 2022 محاولة لحل هذه الإشكالية وتوحيد الاجتهادات.

الآثار القانونية والاجتماعية

  1. تعزيز حماية الملاك الأصليين:
  • يسمح القرار لعام 2022 لأصحاب العقارات الذين فقدوا ممتلكاتهم بسبب التزوير باستردادها، حتى وإن تم تسجيلها باسم مشترين جدد.
  1. زيادة الأعباء على المشترين:
  • يتعين على المشترين التحقق من تاريخ الملكية وفحص المستندات بشكل دقيق، مما قد يؤدي إلى تأخير في إتمام المعاملات.
  1. التأثير على الاستقرار القانوني:
  • يقلص مبدأ “الثقة المطلقة” في السجل العقاري، لكنه يعزز الثقة في نزاهة الإجراءات.
  • يقترب النموذج السوري من النموذج الألماني (BGB §892) الذي يشترط سلامة التسجيل لحماية المشتري، خلافًا للنموذج الفرنسي الذي يعلي من حسن النية المطلقة.

 

يعكس قرار الهيئة العامة لمحكمة النقض لعام 2022 رغبة واضحة في تحقيق التوازن بين حماية الحقوق العينية وضمان نزاهة السجل العقاري، خاصة في ظل تزايد النزاعات العقارية وحالات التزوير التي شهدتها سوريا خلال النزاع. جاء القرار كتوحيد للاجتهادات القضائية المتضاربة، محددًا معايير حماية المشتري حسن النية مع الحفاظ على حقوق المالكين الأصليين. ومع ذلك، يبقى نجاح هذا القرار مرهونًا بمدى فعالية تطبيقه على أرض الواقع، وقدرة الجهات القضائية والإدارية على ضمان سلامة الإجراءات العقارية وتحقيق العدالة لكافة الأطراف.

توصيات:

  1. إنشاء منصة رقمية مركزية للسجل العقاري: تربط السجل العقاري بالسجلات العدلية والوزارات المختصة، مع ضمان الأمان الرقمي وحماية البيانات.
  2. إعادة بناء السجل العقاري على أسس شفافة: مراجعة وتدقيق جميع السجلات العقارية التي تعرضت للتزوير أو التلاعب خلال فترة النزاع.
  3. تفعيل آليات تعويض للمشتري حسن النية: إنشاء صندوق تعويض حكومي لدعم المشترين حسن النية الذين يفقدون ملكيتهم بسبب التزوير.
  4. تعزيز الشفافية في إجراءات البيع والشراء العقاري: إلزام جميع المعاملات العقارية بإجراء تحقق قانوني عبر مكتب توثيق عقاري معتمد.
  5. تطوير برامج تدريبية متخصصة للقضاة والعاملين في القطاع العقاري: تنظيم دورات تدريبية حول التحليل الفني للمستندات العقارية واكتشاف التزوير.
  6. إصدار تعليمات تنفيذية من وزارة العدل لتنظيم المعاملات العقارية: تحديد معايير واضحة للتحقق من ملكية العقارات قبل تسجيلها.
  7. إطلاق حملة توعية قانونية للمواطنين: توعية المواطنين بحقوقهم وواجباتهم عند إجراء معاملات عقارية، بما في ذلك التحقق من صحة المستندات.
  8. تعزيز دور القضاء في حماية الملكية العقارية: تمكين المحاكم من إصدار أوامر سريعة لتجميد الملكيات المشكوك فيها حتى يتم التحقق من صحتها.
  9. إعادة تفعيل نظام الرقابة والتفتيش على السجلات العقارية: إنشاء جهاز تفتيش عقاري مستقل يتبع لوزارة العدل، مكلف بمراجعة السجلات بشكل دوري

 


المراجع
  1. قانون السجل العقاري السوري (القانون رقم 188 لعام 1926).
  2. قرار الهيئة العامة لمحكمة النقض السورية رقم 6 لعام 2022.
  3. القرارات القضائية لمحكمة النقض السورية (1972-2009).
  4. مجلة المحامون، العدد 6، 2022.
  5. دراسات مقارنة في القوانين العقارية: النموذج الألماني والفرنسي.
Facebook
Twitter
WhatsApp
Telegram