إعداد: القاضي جمال الأشقر
مقدمة: أهمية واجب الإبلاغ كأداة للعدالة والمساءلة
إن واجب الإبلاغ عن الجرائم ليس مجرد نص قانوني جامد، بل هو أداة أساسية لتحقيق العدالة وحماية المجتمع من الجرائم والانتهاكات. في المجتمعات التي تلتزم بسيادة القانون، يصبح كل فرد شريكًا في حماية الأمن العام وضمان محاسبة المجرمين. ومع ذلك، فإن هذا الواجب قد يكون سلاحًا ذا حدين؛ إذ يمكن أن يكون مصدرًا للأمان إذا تمت حمايته بشكل صحيح، أو وسيلة للترهيب والخوف إذا افتقر إلى ضمانات الحماية.
في القانون السوري، ينص المشرع على واجب الإبلاغ عن الجرائم، لكن النصوص القانونية تبقى مقيدة بنطاقها التطبيقي، وفي كثير من الأحيان، تُستخدم لأغراض غير تلك التي وُضعت لأجلها. من هنا، تبدأ رحلتنا لاستكشاف هذا الواجب وتحليله نقديًا، مع مقارنته بما تعتمده القوانين الدولية.
واجب الإبلاغ في القانون السوري: النصوص والتطبيق
في سوريا، يتجسد واجب الإبلاغ في المادة 26 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، حيث يُلزم الأفراد بالإبلاغ عن الجرائم التي يشهدونها. لكن هذا النص لا يتضمن عقوبة واضحة على الامتناع عن الإبلاغ، مما يفتح الباب للتأويل ويفقده جزءًا من قوته القانونية.
لكن عندما يتعلق الأمر بجرائم أمن الدولة، تصبح العقوبات أكثر وضوحًا وحزمًا. تنص المادة 388 من قانون العقوبات على أن كل سوري يعلم بجناية على أمن الدولة ولم يبلغ السلطات العامة، يُعاقب بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات، مع المنع من الحقوق المدنية.
أما الموظفون العموميون، فلهم نصيب خاص من المسؤولية. المادة 389 من قانون العقوبات تُلزم الموظفين المكلفين بالبحث عن الجرائم أو ملاحقتها بالإبلاغ عنها، وإلا تعرضوا للعقوبة بالحبس والغرامة. هذه النصوص القانونية ترسم صورة واضحة لواجب الإبلاغ، لكنها تبقى منقوصة بدون ضمانات حماية للمبلغين، وهو ما سنناقشه لاحقًا.
إشكالية التعذيب وسوء المعاملة: بين النصوص والواقع
رغم أن القانون السوري يعترف بواجب الإبلاغ عن الجرائم، إلا أن الواقع يروي قصة مختلفة. فالتعذيب وسوء المعاملة للموقوفين كانت ولا تزال ظاهرة متكررة، حيث تُستخدم الاعترافات المنتزعة تحت التعذيب كدليل إدانة. المادة 391 من قانون العقوبات تنص على معاقبة من يستخدم الشدة للحصول على اعترافات، لكن التطبيق الفعلي لهذا النص ظل هشًا، خاصة في ظل غياب المحاسبة.
كانت النيابة العامة والضابطة العدلية مطالبتين باستقصاء الجرائم وتعقب مرتكبيها، لكن هل كانت هذه الجهات تقوم بدورها كما يجب؟ الواقع يشير إلى أن الكثير من حالات التعذيب مرت دون تحقيق أو محاسبة، بل أن بعض هذه الجهات نفسها كانت جزءًا من المشكلة.
واجب الإبلاغ في القانون السوري مقارنة بالقوانين الدولية
عند مقارنة النصوص السورية بنظيراتها في القوانين الدولية، تظهر الفجوة بوضوح. ففي النظام القانوني الفرنسي، على سبيل المثال، لا يقتصر واجب الإبلاغ على الإبلاغ عن الجرائم فحسب، بل يتم توفير حماية قانونية صارمة للمبلغين، مع ضمان سرية هويتهم.
في ألمانيا، تم تعزيز حماية المبلغين من خلال قانون خاص لحماية الشهود والمبلغين، يضمن عدم تعرضهم للانتقام أو الأذى نتيجة تقديمهم للمعلومات. وتُمنح لهم وسائل قانونية للطعن في أي إجراء انتقامي يُمارس ضدهم.
أما في الولايات المتحدة، فقد تم تطوير نظام “البلغ عن المخالفات” (Whistleblower Protection Act)، الذي لا يكتفي بحماية المبلغين، بل يُعاقب أي جهة تحاول الانتقام منهم. هذا النظام يتعامل مع المبلغين كأبطال يحافظون على النزاهة والشفافية، لا كخونة يجب معاقبتهم.
وفي المقابل، يبقى القانون السوري في مجمله يركز على واجب الإبلاغ دون أن يقدم أي حماية فعلية للمبلغين، خاصة في الجرائم التي قد يكون الجناة فيها من ذوي النفوذ أو المسؤولين.
تحليل نقدي: ثغرات القانون السوري في واجب الإبلاغ
-
غياب حماية المبلغين والشهود:
رغم أن القانون السوري يلزم الأفراد بالإبلاغ عن الجرائم، إلا أنه لا يوفر لهم أي حماية من الانتقام، سواء من الجناة أو حتى من الجهات الرسمية. هذا النقص يُضعف من فاعلية النصوص القانونية، ويُشجع ثقافة الصمت والخوف.
-
النصوص مجمدة في وجه الممارسات العملية:
رغم أن المادة 391 من قانون العقوبات تجرم التعذيب، إلا أن هذه المادة لم تمنع وقوع انتهاكات ممنهجة بحق الموقوفين.
- الاعترافات المنتزعة تحت التعذيب كانت تُستخدم كدليل إدانة.
- لم تُتخذ أي إجراءات قانونية بحق المسؤولين عن هذه الممارسات، رغم وضوح النصوص القانونية.
-
واجب الإبلاغ كأداة للقمع السياسي:
في بعض الحالات، تم استخدام واجب الإبلاغ كوسيلة لاستهداف المعارضين أو أصحاب الرأي المختلف. وكان واجب الإبلاغ أداة بيد السلطات لترهيب المواطنين، خاصة في الجرائم المتعلقة بأمن الدولة.
توصيات عملية لتعزيز واجب الإبلاغ وحماية المبلغين
- إصدار قانون خاص لحماية المبلغين والشهود:
- يجب أن يتضمن القانون آليات لحماية المبلغين من الانتقام، بما في ذلك حماية هويتهم وتوفير الدعم القانوني لهم.
- ضمان سرية البلاغات:
- إنشاء منصة إلكترونية تتيح للمواطنين الإبلاغ عن الجرائم بسرية، مع إمكانية متابعة الإجراءات دون الكشف عن هويتهم.
- تعزيز الرقابة القضائية على النيابة العامة:
- يجب تشكيل هيئة رقابة مستقلة لمتابعة أداء النيابة العامة والضابطة العدلية في التحقيق بالبلاغات.
- رفع الوعي القانوني:
- تنظيم حملات توعية للمواطنين والموظفين العموميين حول واجب الإبلاغ وحقوقهم القانونية.
بين الواجب والحماية
إن واجب الإبلاغ عن الجرائم يجب أن يكون في خدمة العدالة، لا أن يتحول إلى وسيلة للقمع أو الانتقام. في القانون السوري، النصوص واضحة في تحديد واجب الإبلاغ، لكنها تفتقر إلى حماية المبلغين، وهو ما يُضعف من فعاليتها.
إن تحقيق العدالة في أي مجتمع يبدأ من ضمان حماية من يسعى لتحقيقها، والمبلغون عن الجرائم يجب أن يُنظر إليهم كجزء من منظومة العدالة، لا كضحايا محتملين.
المصادر والمراجع:
- قانون أصول المحاكمات الجزائية السوري، المرسوم التشريعي رقم 112 لعام 1950.
- قانون العقوبات السوري، المرسوم التشريعي رقم 148 لعام 1949.
- نفس المصدر السابق.
- المادة 391 من قانون العقوبات السوري، المرسوم التشريعي رقم 148 لعام 1949.
- قانون حماية المبلغين في فرنسا، 2016. (Legifrance: https://www.legifrance.gouv.fr)
- قانون حماية المبلغين، ألمانيا. (Gesetze im Internet: https://www.gesetze-im-internet.de/whistleblower-gesetz)
- قانون حماية المبلغين الأمريكي، مكتب حماية المبلغين الأمريكي. (https://www.whistleblowers.gov)
- التقرير السنوي للجنة حقوق الإنسان في سوريا، 2024. (https://www.hrw.org/middle-east/n-africa/syria)
- التقرير السنوي للجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا، مجلس حقوق الإنسان – الأمم المتحدة. (https://www.ohchr.org/en/countries/sy/report-syria)
- تقرير منظمة العفو الدولية حول حرية التعبير في سوريا. (https://www.amnesty.org/en/location/middle-east-and-north-africa/syria/report-syria)