كانت الرغبة في إقامة مجتمع مبني على العدالة وحكم القانون من أبرز العوامل التي ساهمت في انطلاق الثورة السورية عام 2011، ومع تزايد القوة العسكرية للفصائل المسلحة وتحرير العديد من المناطق في مختلف أنحاء سوريا، قام النظام السوري بإيقاف العمل في مختلف الدوائر الحكومية التابعة له وفي مقدمتها المحاكم والهيئات القضائية، مما سبب انتشار الفوضى ووقف معاملات الناس اليومية في تلك المناطق.
وحرصاً من القوى الثورية على توفير الأمن وفض النزاعات القائمة بين المواطنين وتسيير شؤونهم، فقد عملت على تشكيل جهات قضائية بديلة عن محاكم النظام، وظهرت تلك الجهات في بادئ الأمر على شكل هيئات شرعية تقوم بالنّظر في القضايا التي تُعرض أمامها وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية، إلا أن القائمين عليها لم يكن لديهم خبرة في العمل القضائي، ولم تكن تملك ألية عمل واضحة، وبالتالي لم تتمكن من تلبية حاجات المجتمع، وهو ما دفع مختلف الفعاليات المدنية والعسكرية للعمل على تشكيل محاكم رسمية تعمل على النظر في جميع القضايا وتفصل في مختلف النزاعات التي قد تنشأ فيما بين الأفراد.
وبالرغم من تطور تلك المحاكم واعتمادها هيكلية أكثر تنظيماً، حيث أصبحت تضم غرف مختلفة (مدنية – جزائية – أحوال شخصية) تختص كل منها بالنّظر في أنواع محددة من القضايا، إضافة إلى اعتماد مبدأ التقاضي على درجتين في غالبية المحاكم، إلا أن تبعية تلك المحاكم للفصائل العسكرية مالياً وإدارياً وتنفيذياً، حال دون وجود جسم قضائي موحد يضم كافة المحاكم العاملة في كل منطقة، وقد أدى ذلك بالنتيجة إلى اختلاف القوانين المطبقة في كل محكمة من المحاكم وإجراءات التقاضي أمامها، وبالتالي زعزعة استقرار العمل القضائي.
وللوقوف على عمل الهيئات القضائية في المناطق المحررة، فقد تم إجراء الدراسة الحالية لمعرفة أبرز القضايا المنظورة أمام تلك المحاكم والقوانين المطبقة فيها ومدى معرفة المراجعين بتلك القوانين وإجراءات التقاضي ورضاهم عن الأحكام الصادرة وقدرتهم على الطعن فيها.
وشملت الدراسة محافظات إدلب وحلب وحماه ودرعا والقنيطرة ومناطق ريف حمص الشمالي، وقد تم اجراؤها من خلال استهداف عينة عشوائية تمثلت بمقابلة 950 فرد من الذكور والإناث وجمع البيانات منهم باستخدام استبيان خاص بهم يضم أسئلة مغلقة ومفتوحة، كما تم إجراء مقابلات معمقة مع عدد من رؤساء المحاكم والمحامين العاملين ضمنها من ذوي الخبرة باستخدام دليل يضم أسئلة مفتوحة.
وقد خلصت الدراسة إلى جملة من النتائج، حيث أظهرت عدم وجود قوانين واضحة ومحددة يتم اعتمادها عند النظر في القضايا المطروحة وخاصة المحاكم التي تعتمد قواعد الفقه الإسلامي، إذ أن الأمر يعود في تلك الحالة إلى فهم كل قاضي لتلك القواعد، إضافة إلى عدم معرفة غالبية المراجعين بالقانون المطبق أمام المحاكم بشكل مسبق، وعدم قدرتهم على الاطلاع على نسخ مكتوبة ومقننة من تلك القوانين، وعدم معرفتهم بأسماء القضاة الناظرين للدعوى.
وعليه طرحت عدة توصيات منها ضرورة العمل على تقنين القواعد القانونية المعتمدة من قبل الهيئات القضائية، كما إننا نوصي بضرورة السعي إلى اعتماد القواعد القانونية المنصوص عليها في القانون السوري سواء تلك المتعلقة بالموضوع أو الواردة ضمن قوانين أصول المحاكمات المدنية والجزائية، علماً أن تلك القوانين لا تتعارض مع قيم وأهداف ومبادئ الثورة السورية، كما لا تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية.