ثلاثة عشر عاماً مرت – على تشريد السوريين خارج بلادهم وداخلها – دون أية حلول تلوح في الأفق لإنهاء هذه المأساة، في ظل ظروف تزداد قسوة يوما بعد يوم، يجد فيها اللاجئون السوريون في لبنان أنفسهم محاصرين بين خيارات معقدة من الفقر وسوء المعاملة وغياب الأمان، وتلاشي فرص الحصول على حياة كريمة، أو عودة آمنة. هذه المعاناة التي أصبحت شهادة حية على تخلي المجتمع الدولي عن التزاماته ومسؤولياته القانونية والأخلاقية تجاه ما يزيد عن مليون ونصف من السوريين الذين تتواصل مأساتهم منذ العام 2011 وحتى اليوم.
منذ العام 2014 اعتمدت السلطات اللبنانية سياسة (اللاسياسة) تجاه قضية اللاجئين السوريين الذين يشكلون نحو 25٪ من عدد المقيمين في لبنان، وهي النسبة الأكبر بين مختلف البلدان المضيفة للاجئين، ولم تبادر إلى تقديم أية خطة عمل واقعية، أو استراتيجية محددة للتعامل مع هذه الأزمة الانسانية. بل عبرت الحكومة اللبنانية بورقة رسمية قدمتها في 2014، عن موقفها الرافض لدمج اللاجئين وبناء مخيمات رسمية. الأمر الذي انعكس بعدم تنظيم وجود اللاجئين السوريين وتركه عشوائياً. (مثل الخيام والمباني المهجورة والمزارع). مما خلف العديد من الإشكالات الإنسانية والقانونية.
لقد تخلت الدولة اللبنانية عن دورها كسلطة قائمة ومسؤولة عن تنظيم وجود اللاجئين على أراضيها، بحجة الخوف من شبح التوطين. ومنذ العام 2015 توقفت عن المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة عن تسجيل السوريين كلاجئين . وبذلك توقفت عن إنشاء قاعدة بيانات عن ديموغرافيا اللجوء، وضعفت بالتالي قدرتها على التعامل معها وتنظيمها، والاستجابة إلى متطلباتها على مختلف الصعد بما فيها تنظيم سوق العمل، وتنظيم الوثائق القانونية.
وفي كل أزمة يشهدها لبنان، بدءاً من أزمة المصارف، والفراغ الرئاسي، وصولاً إلى انفجار مرفأ بيروت وانهيار قيمة العملة الوطنية، يظهر ملف “النزوح السوري”، كشوط إضافي في حلبة التجاذبات السياسية التي تلعبها القوى السياسية في لبنان، حيث تتصاعد حملات التحريض وخطابات الكراهية، والانتهاكات، ليبقى هذا الملف أداة استثمار بيد القوى السياسية المختلفة في لبنان، لابتزاز المجتمع الدولي بهدف تحصيل أكبر قدر ممكن من التمويل الخارجي، ووسيلة لتغطية عجز الحكومة عن تلبية احتياجات الشعب اللبناني وتحقيق التنمية المستدامة.
أزمات مضاعفة
بعد مرور 13 عامًا على النزوح المستمر، والعيش مع الخوف الدائم وسوء الخدمات المقدمة، تستمر معاناة السوريون في لبنان – سواءً كانوا مقيمين في لبنان أو لاجئين – من غياب الحماية، وخاصة بالنسبة للفئات الأكثر عرضة للخطر، وهم الأطفال والنساء. حيث يتعرضون للطرد من بعض البلديات، ويعانون من تعثر تجديد تصاريح الإقامة، ويتم ترحيل الآلاف منهم بإجراءات موجزة. و وسط هذه الظروف القاسية، يواجه الأطفال المولودون في المخيمات حرماناً شديداً من أبسط أساسيات الحياة، بدءاً من حليب الأطفال وليس انتهاءً بسرير دافئ ومياه نظيفة و رعاية صحية. يضاف إلى ذلك عجز الأهل عن تسجيل الولادات الجديدة رسميًا، نظراً لعدم امتلاكهم أوراقاً رسمية وعدم القدرة على استخراج أوراق جديدة، وفي المحصلة ونتيجة لذلك، يحرم الأطفال من حقوقهم الأساسية مثل الوصول إلى التعليم والطبابة.
ومنذ عام 2014 شرعت وكالات الأمم المتحدة في تنفيذ خطة استجابة لأزمة النازحين واللاجئين السوريين وكذلك المجتمع المضيف، لكن سوء الإدارة واستغلال البنوك اللبنانية، أدى إلى فشل هذه الخطة بشكل كامل. وبحسب تحقيق أجرته مؤسسة طومسون رويترز في هذا السياق، أكد مسؤولو إغاثة ودبلوماسيون من الدول المانحة “أن ما بين ثلث ونصف المساعدات النقدية المباشرة من الأمم المتحدة في لبنان قد ابتلعتها البنوك منذ بداية الأزمة في عام 2019. وأن ما لا يقل عن 250 مليون دولار من مساعدات الأمم المتحدة الإنسانية المخصصة للاجئين السوريين والفلسطينيين والمجتمعات الفقيرة في لبنان ضاعت لصالح البنوك التي تبيع العملة المحلية بأسعار غير مواتية على الإطلاق”.
الترحيل القسري
أصبحت عمليات الترحيل الهاجس الأكبر الذي يعاني منه السوريون، بعد تصاعد حملات المداهمة والتفتيش التي تنتهي بالاعتقالات والترحيل التعسفي لأولئك الذين لا يملكون أوراقًا رسمية، في الوقت الذي تم إغلاق الحدود السورية – اللبنانية منذ العام 2015 بوجه النازحين، والمفوضية السامية أوقفت تسجيل السوريين لديها. فلم يعد هناك اعتراف رسمي باللاجئين ولا إقامات قانونية لهم .
مع العلم أن المفوضية السامية للأمم المتحدة صرحت بأن سوريا غير آمنة لعودة اللاجئين، وطالبت مع العديد من المنظمات الدولية بوقف ترحيل السوريين من لبنان والالتزام بمبدأ عدم الإعادة القسرية، نظرًا للمصير المجهول الذي ينتظر العائدين دون ضمانات أمنية. هذا التصريح الذي يحاكي الواقع الفعلي للاجئين الخائفين من ردة فعل النظام حيال عودتهم كون عدد كبير منهم إما متخلف عن الخدمة الإلزامية، أو مطلوب أمنيا بسبب مواقفه المعارضة للنظام.
لا يعيش اللاجئون السوريون في لبنان في بقعة معزولة عن العالم، بل في دولة صادقت على قرارات الأمم المتحدة واتفاقياتها التي تضمن حقوق اللاجئين حول العالم، وتتلقى مساعدات خاصة من أجل تأمين شروط الحياة اللائقة لهم. من دون أن تمتلك الحق بإعادة اللاجئين إلى بلادهم عنوة، لاسيما في ظل الخطر الذي قد يتعرضون إليه بعد عودتهم.
إذ يعتبر الترحيل القسري بحسب المفوضية:”انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان”، ويتعارض مع العديد من الحقوق خاصة مع العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وقرارات مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة والإعلان الدولي لحقوق الإنسان.
إن مبدأ عدم الإعادة القسرية منصوص عليه صراحة في أحكام القانون الدولي الإنساني، والاتفاقية الخاصة باللاجئين، والقانون الدولي لحقوق الإنسان، وإن ورد بنطاقات مختلفة وشروط مختلفة للتطبيق في كل فرع من فروع القانون المذكورة. وترى اللجنة الدولية أن جوهر مبدأ عدم الإعادة القسرية قد اكتسب أيضًا صفة أحكام القانون الدولي العرفي
وبموجب اتفاقية 1951 وبروتوكول 1967 الخاصين بوضع اللاجئين ، فإن مبدأ عدم الإعادة القسرية “ينطبق حيثما تمارس الدولة ولايتها القضائية، ويشمل ذلك المناطق الحدودية أو في أعالي البحار أو على أراضي دولة أخرى”، على أن يكون المعيار الحاسم هو ما إذا كان الأشخاص “يخضعون للسيطرة الفعلية لتلك الدولة وسلطتها”.واتخذت محاكم حقوق الإنسان الإقليمية وهيئات معاهدات حقوق الإنسان مواقف مماثلة في هذا الشأن.
و على الرغم من عدم انضمام لبنان إلى اتفاقية اللاجئين، إلا أنه لا يزال ملزمًا بمبدأ عدم الإعادة القسرية وفقًا للقوانين والمبادئ الدولية الأخرى التي تحمي حقوق الإنسان. حيث تعتبر مبادئ حقوق الإنسان جزءًا من القانون الدولي العام وتلتزم بها الدول بصفة عامة، بما في ذلك لبنان.
بالتالي، من الناحية القانونية، يتوجب على لبنان احترام مبدأ عدم الإعادة القسرية وعدم ترحيل اللاجئين السوريين إلى بلدانهم إذا كانت هناك مخاطر تهديد حياتهم أو حريتهم أو سلامتهم في حالة العودة
“تتطلب التحديات التي يواجهها اللاجئون السوريون في لبنان التعاون الوثيق بين الحكومة اللبنانية، المجتمع الدولي، والمنظمات غير الحكومية. يهدف هذا التعاون إلى تخفيف تأثير الأزمة على اللاجئين والمجتمع المضيف في لبنان. ومن الضروري وضع آلية فعالة لإحصاء اللاجئين تستند إلى الأرقام الحالية كقاعدة بيانات وتطويرها باستمرار لتكون قاعدة بيانات محدثة تسمح بالتمييز بين الفئات المختلفة للسوريين في لبنان.
وينبغي بدء عمليات التسجيل بمستوياتها الثلاثة: الإقامات، الزيجات، والولادات، وذلك لتجنب الاشكاليات القانونية المحتملة الناتجة عن عدم تسجيلها بشكل صحيح ومنظم. يعتبر هذا الإجراء خطوة أساسية لتوفير الحماية القانونية والاجتماعية للأفراد والعائلات السورية المقيمة في لبنان.”
إن الاحتياج الأكبر اليوم في قضية اللاجئين هو الوصول إلى سبل مبتكرة في الاستجابة، تستهدف اللبنانيين واللاجئين من سوريا على حد سواء لمواجهة الأزمة المطولة، وتفادي المزيد من التدهور في الوضع الإنساني لما يزيد عن مليون ونصف شخص إلى أن يتم التوصل إلى حل سياسي وتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2254، والذي يهدف إلى إحداث تغيير ديمقراطي يسمح بعودة السوريين بأمان للمساهمة في إعادة بناء بلدهم واستعادة دورهم في المجتمع.